Tuesday, November 27, 2018

بعض النساء لا يعتبرن ما حدث لهن اغتصابا ويلمن أنفسهن بسبب تناول الكثير من الكحوليات أو غير ذلك

وناهيك عن عدم وجود علاقة بين الفترة التي تمضي قبل إبلاغ شخص باعتداء ومصداقيته، فهناك أيضا من العوامل الاجتماعية والنفسية ما يحول دون تمكن الضحية من استيعاب ما وقع لها على الفور.
وتقول بيترسون إن الذهن قد ينأى بنفسه عن الحدث لمساعدة صاحبه على تجاوز اللحظة، وإن عطل هذا قدرته على المقاومة. ومن المؤسف أن تلك الاستجابة تجعل الشخص غير قادر على إدراك وقوع الاغتصاب "فعلا" بحسب ما تعلمه أغلبنا - ولذا فإن النساء اللاتي لا يقاومن بشكل ظاهر "يكن أكثر إحجاما عن وصف ما تعرضن له بالاغتصاب".
ومن التصورات الأخرى الشائعة أن ضحية الاغتصاب دائما أنثى، ومن المؤلم حقا أن معظم الرجال الذين تعرضوا لانتهاك جنسي كأطفال، بل واغتصاب ككبار، لا يصفون ما وقع بهم كذلك. وطلبت دراسة أجرتها بيترسون وفريقها من 323 رجلا الإجابة على أسئلة على الإنترنت حول تجاربهم الجنسية، ووجدت أن 24 بالمئة فقط ممن تعرضوا لاغتصاب وهم كبار وصفوا ذلك بالاغتصاب.
يدرك ماثيو هايز (ليس اسمه الحقيقي)، ويعيش في ولاية كاليفورنيا، صعوبة استخدام كلمة "اغتصاب". لقد أدرك أن العلاقة التي كان بها في مقتبل العشرينات لم تكن طبيعية فقد كانت رفيقته تلجأ إلى تهديده، وليس إلى العنف البدني، من أجل ممارسة الجنس معه، لذا رفض في البداية وصف الأمر بالاغتصاب.
يشير هايز إلى ثلاثة أمثلة كانت فيها رفيقته في غير وعيها لتعاطيها مسكرا أو مخدرا وكانت تتصرف بشكل مخيف، قائلا: "في إحدى المرات ظلت تضرب نفسها حتى ألبي طلبها بممارسة الجنس، وفي مرة أخرى أشهرت سكينا وقالت إنها ستضرب بها نفسها طوال الليل لو لم أمارس الجنس معها، والمرة الثالثة هددتني بعد أن أشهرتْ مسدسا بأن 'شيئا سيحدث' لو لم أطاوعها".
ومضى عام كامل بعد أن انتهت العلاقة حين تحدث هايز لصديق راعه ما سمعه فأدرك حينها أن ما وقع كان أكثر من مجرد احتيال بل هو اغتصاب، لكن التجربة التي مر بها هايز لا تتفق بالطبع مع التصور المعهود للاغتصاب، فهو ليس امرأة.
وهناك العديد من المواقف التي تخالف تصور الضحية نفسها عن الاغتصاب، فقد وجدت بيترسون وزميلتها شارلين مولينهارد خلال دراسة حالات 77 طالبة بالجامعة تعرضن لاختراق مهبلي دون موافقتهن، أسبابا عدة لعدم وصف الطالبات ما حدث بالاغتصاب، ومنها:
وصف المغتصب لا ينطبق على المهاجم ("لقد كان صديقي وهو شخص محبوب من الجميع")
•سلوك الضحية ربما لا يتفق مع المقبول ("كان خطأي لقد استبد بي السكر")
•لم يكن هناك عنف بدني من جانبه وأنا لم أقاوم ("لم يوسعني ضربا"

لا يمكن للكثيرين التثبت من أن ما وقع لهم كان اغتصابا "فعلا"، فتعريف الاغتصاب، قانونا، يختلف بين بلد وآخر، وأحيانا بين إقليم أو ولاية داخل نفس البلد. ففي الولايات المتحدة نجد أن ولاية ميزوري تحدد سن الموافقة على ممارسة الجنس بـ 14 عاما (على ألا يزيد عمر الطرف الآخر عن عشرين عاما)، أما في ولاية إلينوي المجاورة فسن الموافقة على ممارسة الجنس هو 17 عاما.
كما يعكس تفاوت القوانين الأعراف الاجتماعية المتباينة، ما يجعل الضحية غير قادرة على إدراك تعرضها للاغتصاب.
وتتمثل الصورة النمطية للاغتصاب "الحقيقي" في أن يلج ذكر غريب عنوة امرأة مقاومة في مكان عام. وحين يقع اعتداء جنسي بخلاف تلك الصورة يصعب على الضحية إدراك أنه كذلك، إذ يصنف العقل التجارب وفق ما تعلمه من أوصاف من بيئته المحيطة.
لكن إحدى أكبر المشاكل في هذا التصور تكمن ببساطة في أنه يجافي الحقيقة، فالاغتصاب يحدث بأشكال عدة وظروف مختلفة، بل أغلب ما يحدث من اغتصاب لا يأتي من غريب يوقع بضحيته في شارع مظلم!
وقد أظهرت دراسة أجريت عام 2016، وشملت كافة حالات الاغتصاب المبلغ عنها لجهة مركزية بالشرطة البريطانية على مدى عامين، أن 400 حادث اغتصاب لم يكن بينها حادث واحد يتفق والتصور السابق لرجل غريب يحمل سلاحا ويغتصب امرأة تقاومه بمكان عام تحت جنح الظلام.
فمثلا يكثر ألا تقاوم ضحية الاغتصاب بشكل ظاهر، إما لغيابها عن الوعي أو لرعبها الذي يجعلها بلا حراك، إذ ذكر 70 بالمئة من نساء لجأن لمراكز متخصصة في إسعاف حالات الاغتصاب في استوكهولم أنهن أصبن بالشلل المؤقت جراء الخوف، وذلك وفق دراسة أجريت عام 2017، ولم يكن ذلك طبعا قبولا منهن بل جاءت ردة الفعل على نحو بيولوجي معتاد في حال التعرض للخطر.
كما يشيع أيضا عرض الشعور بالانفصال عن الجسم، وهو الأمر الذي مرت به ماريسا كوربل إبان التعرض للتهديد. وتقول زوي بيترسون، متخصصة في علم النفس السريري ورئيسة مبادرة معهد كينزي لأبحاث الاعتداء الجنسي التابع لجامعة إنديانا: "من الشائع حين يتعرض المرء لتجربة أليمة لا مناص منها أن يلجأ لمهرب نفسي"

Thursday, November 8, 2018

لم يعد البحر مكانا آمنا للنساء

درست الهندسة في جامعة دمشق، ثم انتقلت لإكمال دراستها في جامعة النهرين في بغداد. تعمل في مجال الهندسة الطبية. عام 2015 ، أصدرت رواية عن فتاة عراقية سكنت في دمشق، وعام 2017 أصدرت كتابا يضم قصصا عن أشخاص أصيبوا بالسرطان داخلي طفلة تأبى أن تكبر، أطلق العنان لها كي لا تهرم الروح ويتعب القلب. لا أدّخر وقتا ً كلما كان الجو جميلاً بعد صيف حارق طويل لأذهب مع الأهل والأصدقاء لقضاء يوم مُميّز بعيداً عن روتين الحياة والأخبار والتفجيرات؛ حيث تسرقنا الطبيعة من كل هذا.
مكاني المفضل هو "جزيرة بغداد"، التي كانت قد تحولت إلى معسكر يقيم فيه الجنود الأمريكيون، وبعد خروجهم عادت حديقة عامة جميلة رغم كل ما حفرته الطلقات على جدران مبانيها.
نفتقد في بغداد توفر حدائق ومنتزهات عامة، وبسبب الجو الحار أصبح خيار الجميع الذهاب للمطاعم والمولات التي يتزايد عددها يوماً بعد يوم. وفي تلك الشهور القليلة من السنة حين يصبح الجو جميلا نحتاج لشيء من السكينة، ولكن لا يكون أمامنا سوى خياريَن: منتزه الزوراء، وجزيرة بغداد السياحية؛ الأول في جانب الكرخ والثانية في جانب الرصافة.
في جزيرة بغداد تمتد ُبساتين النخيل الذي أُعيدت زراعة الكثير منه بدل الذي أحرقته الصواريخ. أعيد ترميم المكان عام 2015 وتمت تهيئة مناطق للشواء وأخرى للجلوس علماً أن المكان كان فيه مطاعم ومسرح وبيوت سياحية لم يعاد تعميرها بعد ولا تزال مهجورة.
طبخنا الدولمة والبرياني، وأخذنا سمكا للشوي، وفور وصولنا جلسنا في مكاننا المعتاد أمام البحيرة. ذهبت مع أخواتي البنات الأصغر سنا لركوب الدراجات الهوائية؛ عدنا أطفالا ً بذاكرتنا إلى حيّنا القديم. كنا نخرج مع أطفال المنطقة نلعب بالشارع سوياً ونتسابق بالدراجات الهوائية. كانت أكبر مخاوفنا آنذاك عودة أبي ليقول حان موعد النوم. واليوم أكبر مخاوفي أن بغداد أصبحت ساحة مفتوحة بغياب قانون فعلي لذلك نخاف من مستقبل مجهول ينتظرنا، لكننا نستمر مع كثير من الأمل.
أنظر إلى أختي الأصغر التي ولدت عام 2003 - عام الغزو - وأتذكر كيف كنا نخاف عليها حتى من الوقوف عند باب البيت ومن التحدث مع الغرباء خشية احتمال خطفها؛ نخاف عليها من يوم يبدأ جميلاً بشمس مشرقة، وبعد قليل قد يحدث انفجار بسيط فتهب عاصفة تسرق عمر الأوراق اليانعة المتشبثة بالأشجار والتي كانت تنتظر أياماً جديدة بكل أمل.
سرق منا المجتمع وظروف الحياة فيه حرية التصرف كأطفال؛ وحرية تنقل الفتيات والنساء بالدراجة بشكل عادي في الشارع بسبب ظروف أمنية سيئة ولتجنب التعرض لبعض المضايقات. هذا المنتزه هو متنفسنا الوحيد، وعندما أنظر لأختي الأصغر أرى أننا كنا أفضل حالا منها بكثير.
أعود لتعليمها ركوب الدراجة والسباق معها حتى نهاية الشارع الطويل الذي تحتضن أشجار البرتقال والنارنج جانبيه، وتمد أغصانها عاليا لتحجب الشمس عنا قليلا. من غرس هذه الأشجار؟ ما دينه ما طائفته؟ هل تسأل الأشجار بعضها أسئلة كهذه؟ إن غرسنا أنواعا مختلفة من الشجر قرب بعض، هل يمكن أن تحتضن بعضها وهي مختلفة؟ لا أعلم ما إذا كنا وحدنا - نحن البشر - من يعاني عقدة الاختلاف أم أنها صفة جميع مخلوقات الله.
هنا في المنتزه، أرى من يلعب الكرة، ومن يستمع للأغاني الشعبية، ومن يرقص على أنغامها بعفوية تاركاً بشاعة ما يحدث خلفه لساعات ولو قليلة، بشاعة الواقع الاقتصادي والأمني الذي يعيشه العراقي يوميا. تذكرت الوضع قبل سنين؛ انفجارات مفاجئة في المناطق الشعبية المكتظة بالناس بعد دخول عناصر تنظيم داعش، أتذكر خوف الناس منهم، ونزوح عدد كبير من سكان المحافظات الأخرى لبغداد مما تسبب بأزمة في العاصمة، إضافة إلى تدهور الوضع الاقتصادي وغلاء الأسعار. حمدت الله أننا اليوم بحال أفضل.
ذهبنا لشراء حلوى "غزل البنات" من العربة المارة، تناولناها ونحن نواصل مسيرنا نحو البحيرة، مستمتعين بمنظر الغروب. أغمض عيني وأدعو الله أن تقف اللحظة هنا، دون خوف من الغد الذي نجهل بعيداً عن كل ما مضى. كلما آتي إلى هنا، أشعر أنّ كل شيء سيمضي. لكني أسمع صوت أبي، الذي رحل، يقول لي: "بغداد تبقى جميلة كما هي، وتزداد كل يوم جمالاً وسحراً. تعلمنا القوة والصمود وعدم الاستسلام، فلا تستسلمي".
تعودنا ونحن في إحدى النزهات أن نسمع صوت انفجار، فنترحم عمن مات ونكمل حياتنا، تعودنا أن نرى خطي الحياة والموت يسيران بشكل متواز. ربما أصبح الموت رفيق الحياة الدائم، وقتل داخلنا إحساس الرهبة منه لشدة قربه منا.
.